دراسات

المشير سوار الذهب..كيف سلم العسـ.ـكري السلطة للشعب دون قطرة د.م واحـ.ـدة؟!

هيومن فويس

المشير سوار الذهب.. كيف سلم العسـ.ـكري السلطة للشعب دون قطرة د.م واحـ.ـدة؟!

يُحكَم السودان منذ الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم عمر البشير عام 2019 وفق صيغة فريدة لتقاسم السلطة بين العسـ.ـكريين والمدنيين ضمن مرحلة انتقالية مضطربة.

وفيما يأمل السودانيون أن تنتهي المرحلة الحـ.ـالية بانتقال ديمقراطي سلس نحو حكم مدني كامل، يخبرنا تاريخ السودان الحـ.ـديث أن المدنيين لم يتمكنوا من حُكم البلاد سوى لفترة قليلة منذ الاستقلال. ومع ذلك، كان للسودان تجربة فريدة مع المشير سوار الذهب الذي سلّم السلطة طوعا للمدنيين بعد انتفاضة عام 1985، في نموذج قلّما شاهدناه في الجمهوريات العربية الحـ.ـديثة.

سأل أحـ.ـد الصحفيين يوما المشير عبد الرحمن سوار الذهب: هل التزمتَ بوعدك للسودان وأهله؟ ليردَّ قائلا: “أضفتُ فوق تلك المدة عشرين يوما فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية، وقد اكتملت، فسلّمتُ مقاليد السلطة للحكومة المنتخبة الجديدة، ولرئيس وزرائها الصادق المهدي ثم انسحبتُ”!

تُعد التجربة السياسية في السودان منذ الاستقلال عن المحتـ.ـل البريطاني والانفصال عن مصر في الأول من يناير/كانون الثاني 1956م من التجارب اللافتة والمثيرة للغاية؛

ذلك أن السودان لم يتمكّن المدنيون من حكمه سوى لأشهر معدودة بعد الاستقلال، حتى إذا جاء العام 1958م فإذا برئيس الوزراء السوداني عبد الله خليل يُسلم السلطة لقائد الجيـ.ـش الفريق إبراهيم عبود بسبب الخلافات الشرسة بين الأحزاب السودانية، وصـ.ـراعها المحتـ.ـد.م على المناصب، خصوصا حـ.ـزبي الأمة والاتحاد الاشتراكي، الأمر الذي أثّر بالسلـ.ـب على الخد.مات والأوضاع الاقتصادية.

وإذا كان الجنرال عبّود قد أخذ السلطة من المدنيين، وحسم مادة ذلك الصـ.ـراع، وجعل الجيـ.ـش هو المدبر لأمر البلاد عسـ.ـكريا وسياسيا؛ فإن المشكلات الاقتصادية لم تتحسن كثيرا، بل على العكس ظهرت أخطاء فادحة أخرى، مثل الفسـ.ـاد ونقص المساءلة المالية وهدر الإنفاق على مشروعات لخد.مة الجيـ.ـش سرعان ما استنفدت فائض الإيرادات

وقد صاحب هذا انتشار شائعات بين السودانيين عن اقتراب الانهيار الاقتصادي، فازداد سخط السودانيين على العسـ.ـكر، وسرعان ما تأزم الوضع ليخرج الناس إلى شوارع الخرطوم والمدن الأخرى بأعداد هائلة ناقمين على الأوضاع، ومطالبين بالتغيير، وذلك في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1964م ليعلن عبود على إثرها حل المجلس العسـ.ـكري، وتسليم السلطة للمدنيين.

وبالفعل استطاع الشيوعيون في بادئ الأمر السيطـ.ـرة على الحكومة قبل أن يأتي أنصار الحركة المهدية من معقلهم في أبا جنوبا إلى الخرطوم وتحت الضـ.ـغط تم إجراء الانتخابات البرلمانية التي استطاعت الأحزاب ذات التوجه الإسلامي الحصول على النسبة الأعلى في المقاعد، الأمر الذي أهّل حـ.ـزب الأمة والحـ.ـزب الاتحادي للدخول في ائتلاف مشترك

ثم سرعان ما ارتقى صادق المهدي الشاب الثلاثيني حينها إلى رئاسة الوزراء ولم تد.م ولايته إلا عشرة أشهر ما بين عامي 1966 و1967م، لتجري انتخابات جديدة إثر تفكك الائتلاف الحاكم الذي دخل في أزمـ.ـة وصـ.ـراع جديد.

استمرت الأوضاع السياسية القلقة على هذا النحو الذي أدّى إلى نتائج سلـ.ـبية على الاقتصاد السوداني، لكن حـ.ـزب الأمة والاتحادي الديمقراطي كانا قد اتفقا أخيرا على سياسات ومبادئ الدستور المؤجل منذ نحو طويل، وبدا أن الدستور الجديد سيكون متوجها ناحية الإسلام والشريعة في وقت كان العالم العربي متأثرا فيه بأيديولوجيا الناصرية والاشتراكية والقومية العربية.

لذلك، وبعد هذا الاتفاق بين الحـ.ـزبين الكبيرين في السودان بثمانية عشر يوما فقط، وفي 25 من مايو/أيار 1969م قام العقيد جعفر النميري على رأس تنـ.ـظيم سُمي “الضـ.ـباط الأحرار”، المتأثر بأفكار وتوجهات حركة الضـ.ـباط الأحرار في مصر، باحتـ.ـلال مداخل العاصمة الخرطوم، مانعا الحكومة من تسيير أعمالها؛ ليتسلم مقاليد الحكم إثر الانقلاب الثاني في تاريخ السودان الحـ.ـديث.

كان الشيوعيون عند.ما سيطـ.ـروا على قيادة “جبـ.ـهة المهنيين” التي كانت في الواجهة حين أطاحت بنظـ.ـام عبود سنة 1964م قد اكتشفوا وجود حلفاء طبيعيين لهم وسط الضـ.ـباط الشبان الناقمين على الأحزاب المدنية وعلى رأسها حـ.ـزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، الأمر الذي سعى من أجله الشيوعيون إلى إرساء وتعزيز وجود لهم داخل الجيـ.ـش السوداني

وقد لاقوا بغيتهم في مجموعة من الضـ.ـباط الاشتراكيين والشيوعيين الذين رأوا أن السودان يحتاج إلى إعادة بناء نظمه الاجتماعية والاقتصادية ليصبح علمانيا اشتراكيا، وكان من هؤلاء العقيد جعفر النميري الذي ارتقى إلى منصب رئاسة الوزراء وتعيين حكومة موالية له من العسـ.ـكريين والمدنيين بُعيد انقلابه.

سرعان ما واجه النميري حركة الأنصار بالقـ.ـوة المسـ.ـلحة التي أودت بالآلاف منهم حتى قُتل الإمام الهادي زعيم الحركة نفسه على الحـ.ـدود مع إثيوبيا، ونُفي صادق المهدي إلى خارج السودان في النصف الأول من العام 1970م

وأصبحت البلاد بعد القـ.ـضاء على أهم قوتين سياسيتين في البلاد الأنصار ثم منافسيه من الشيوعيين واقعة بكليتها في قبـ.ـضة جعفر نميري، وتعززت سلطته لاحقا بعد.ما أحبط محاولة الحـ.ـزب الشيوعي بالانقلاب عسـ.ـكريا عليه بقيادة الضابط هاشم العطا الذي استطاع النميري القبـ.ـض عليه وإعدامه في نهاية المطاف، لتمثل الحـ.ـالة الد.موية الأولى في تاريخ الانقلابات العسـ.ـكرية في السودان[1].

اتّسمت فترة النميري بتقلّبه ما بين الأفكار الاشتراكية في نصفها الأول والتقرب من الإسلاميين والصوفية في نصفها الثاني، مع قبـ.ـضة حـ.ـديدية على الحياة الحـ.ـزبية؛ ففي هذه الفترة كان نميري قد زج بمعظم قياديي الحركات الاجتماعية في السجون والإقامة الجبرية، ومع ذلك حاول الإخوان المسلمون القيام بانتفاضة شعبية في العام 1973م

والتي كان لها نتائجها فيما بعد حيث أسفرت عن دخولهم إلى مجلس الشعب في العام 1976م، وبزغ منهم حسن الترابي الذي استطاع تولي وزارة العدل.

في السنوات الأخيرة من السبعينيات وحتى انتفاضة الشعب السودان ضـ.ـد النميري عام 1985م، كان النميري ذكيا حين لاح له الصعود الكبير للتيار الإسلامي في السودان في تلك السنوات، ورغم اتهام البعض له باللوثة التي أصـ.ـابته في السنوات الأخيرة من حكمه إلا أن الرجل حاول استـ.ـغلال التيار الإسلامي من الإخوان والصوفية والأنصار

في خضم حـ.ـالة “الصحوة الإسلامية” التي كانت تضـ.ـرب بجذورها في العالم العربي كله آنذاك، للاستمرار في منصبه مؤيّدا بقـ.ـوة شعبية هائلة من الإسلاميين في السودان، بادئا بالمصالحة الشهيرة مع الصادق المهدي في عام 1977م وما جاء العام 1983م إلا وأعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد

وخرج الإخوان المسلمون ومـ.ـؤيدو هذا القرار في مسيرات مليونية هائلة كان لها وقعها الكبير في العالمين العربي والعالمي، ولذلك واجه النميري انتقا.دات عنيـ.ـفة من الجنوبيين ذوي الأغلبية المسيحية، ومن واشنطن التي زار نائب رئيسها آنذاك جورج بوش السودان للتباحث مع النميري حول هذه المستجدات الساخنة

ومن هنا، لم يلبث النميري إلا أن أعلن تراجعه عن تطبيق الشريعة، وفض تحـ.ـالفه مع الإسلاميين، بل وإيداع قا.دتهم في السجون وعلى رأسهم حسن الترابي الذي كان مساعدا لرئيس الجمهورية للسياسة الخارجية آنذاك، بل واتهمهم بأنهم “يشوهون صورة الإسلام في السودان”، وتاجروا بأقو.ات الناس، وشجعوا الصـ.ـراعات الفئوية[3]، وكانت جل الأحزاب آنذاك محظورة إلا الحـ.ـزب الرسمي في الدولة “الاتحاد الاشتراكي”.

كانت السودان حينذاك تغوص في أزمـ.ـة اقتصادية طاحنة، تضـ.ـرب بعض أطنابها المجاعات، وبدأ الناس يضيقون ذرعا بإجراءات النميري، وزيادة أسعار الخبز

كما بدأت الإضرابات والمظاهرات تعم العاصمة منذ نهايات شهر مـ.ـارس/آذار 1985م، وفي صبيحة السادس من أبريل/نيسان وبينما كان النميري في طريقه من واشنطن إلى القاهرة ومنها إلى الخرطوم أعلنت القيادة العامة للجيـ.ـش السودان على لسان وزير الدفاع أن الجيـ.ـش انحاز إلى مطالب الشعب، وأعلن تعطيل العمل بالدستور، والإطاحة بالنميري ونوابه ومعاونيه ومستشاريه، ونقل السلطة للشعب عبر فترة انتقالية محـ.ـددة[4]، ليبقى النميري لعدة سنوات في القاهرة قبل أن يُسمح له بالعودة أخيرا في زمن الرئيس عمر البشير.

في مدينة أم درمان، المدينة الأكبر والمحاذية للجهة المقابلة للعاصمة الخرطوم، وفي شهور عام 1935م وُلد عبد الرحمن سوار الذهب، الذي تلقى تعليمه وحفظه للقرآن على يد والده، وفي العام 1955م تخرج في الكلية الحـ.ـربية في السودان، وتلك السنة التي كانت المشاورات على أشدها بين السودانيين من جهة والمصريين ثم الإنجليز من جهة أخرى

وما جاء العام التالي إلا والسودان قد نال استقلاله التام، ودخلت أحزابه في صـ.ـراعات السياسة والنفـ.ـوذ حتى قام الانقلاب العسـ.ـكري الأول، وهو الانقلاب الأبيض أو السلمي بزعامة الفريق إبراهيم عبود.

تدرج عبد الرحمن سوار الذهب في المناصب العسـ.ـكرية، ورأى سيطـ.ـرة الجيـ.ـش على مقاليد السياسة في السودان مع انقلاب عبود وجعفر نُميري، وحين حاول الضابط الشيوعي الرائد هاشم العطا الانقلاب على النميري في عام 1971م، كان سوار الذهب مسؤولا عن الحامية العسـ.ـكرية في مدينة الأبيض

ورفض أن يُسلّم المدينة للانقلاب الشيوعي، ورغم ذلك أصدر نميري قراره بإبعاده عن السودان، فاتجه صوب قطر حيث عمل فيها مستشارا عسـ.ـكريا للشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وكان لسوار الذهب الفضل في إعادة هيكلة المؤسسات الأمـ.ـنية القطرية حين فصل الجيـ.ـش عن الشـ.ـرطة.

عاد سوار الذهب إلى السودان مرة أخرى في عام 1975م وقد تحسّنت علاقته بالنميري الذي كنَّ له ولاء كبيرا باعتباره رأس الدولة السودانية، ثم ما لبث أن ترقى حتى وصل إلى منصب رئيس هيئة الأركان، ثم رُقي إلى منصب وزير الدفاع السوداني والقائد العام للقو.ات المسـ.ـلحة في مـ.ـارس/آذار 1985م قبل أيام قليلة من انتفاضة السودان ضـ.ـد حكم النميري.

كان سوار الذهب وهو في منصب القائد العام للجيـ.ـش السوداني يرى تطلعات السودانيين، كما يرى غضـ.ـبهم الذي بلغ أوجَهُ حينذاك بسبب تقلبات النميري السياسية والحادة ما بين الاشتراكية والتيار الإسلامي ولعبه على الحبال

وفوق ذلك الوضع المتأزم بسبب سياسته الخاطئة والحادة في المشكلة الجنوبية التي كانت تتوسع منذ الاستقلال، والتي زادت مع إعلانه “تطبيق الشريعة الإسلامية” حتى على الجنوب ذي الأغلبية المسيحية، فضلا عن الأوضاع الاقتصادية البائسة التي اضطرت النميري حينها في مـ.ـارس/آذار من العام نفسه إلى السفر إلى الولايات المتحـ.ـدة لمقابلة كبار المسؤولين في واشنطن والبنك الدولي بهدف الحصول على قروض عاجلة.

حلَّ سوار الذهب الحكومة، كما حلَّ جهاز أمـ.ـن الدولة سيئ السمعة في زمن النميري، بل إنه فوق ذلك اعتـ.ـقل كافة رجاله ترضية للشارع السوداني
يقول سوار الذهب في أحـ.ـد لقاءاته التلفزيونية: “حاولنا تلمس شعبية الرئيس (النميري) في تلك الأوقات، فدعونا لتظاهرة واسعة جدا أردناها مليونية للتأكيد أن قطاعا كبيرا من الشعب السوداني لا يزال يتمسك بالرئيس جعفر النميري

لكن بكل أسف الذين جاءوا لهذه التظاهرة رغم الإعداد الواسع لها كانوا أقل القليل من الشعب السوداني، ففي تلك اللحظة أد.ركتُ أن شعبية الحكم الذي كان قائما لم تعد موجودة، وبالتالي كانت هناك مسؤولية كبيرة على عاتق القو.ات المسـ.ـلحة للحفاظ على النظـ.ـام العام، وأن الدفاع عن هذا النظـ.ـام ستكون عواقبه كبيرة وصدامية مع الشعب

فتشاورت مع إخواني في القيادة العامة، ومررت على الوحـ.ـدات العسـ.ـكرية فشعرت أن هناك رغبة عامة للاستجابة لمطالب الشعب السوداني الذي كان يريد أن يُغير هذا الحكم بحُكم ديمقراطي، فما كان مني إلا أن أعلنت أننا (الجيـ.ـش) ننحازُ إلى جانب الجماهير ونُنهي الحكومة القائمة ونحكم البلاد لفترة انتقالية محـ.ـدودة نجري خلالها تعديلات في الدستور ثم بعد ذلك نُجري انتخابات واسعة ونسلم بعد ذلك الحكم للحـ.ـزب الفائز وحينها نتنازل عن الحكم له

حلَّ سوار الذهب الحكومة، كما حلَّ جهاز أمـ.ـن الدولة سيئ السمعة في زمن النميري، بل إنه فوق ذلك اعتـ.ـقل كافة رجاله ترضية للشارع السوداني
واستدعى وكلاء الوزارات إلى مكتبه في وزارة الدفاع للاجتماع العاجل بهم للوقوف على الأوضاع العامة في البلاد بصورة دقيقة، وكلهم أوصل إليه مدى الأوضاع البائسة والمز.رية في وزاراتهم آنذاك، وافتقا.دهم للكثير من المستلزمات والمتطلبات العاجلة، حتى صُد.م سوار الذهب بأن السودان كان يفتقد كل الافتقا.د للعُملة الصعـ.ـبة لشراء البترول الذي كان يكفي لسبعة أيام فقط بحسب ما أخبره المسؤولون عن هذا الملك وقتذاك

وبسبب علاقة سوار الذهب القوية والمتينة بدول الخليج، وهو الذي عمل في قطر لمدة ثلاث سنوات مستشارا عسـ.ـكريا لأميرها الذي أشار وأشاد للملك فهد آل سعود بشخصية سوار الذهب وانضـ.ـباطه، وكان لإشادة أمير قطر أثرها السريع، فقد أمر الملك فهد بإرسال معونات عاجلة للسودان في صورة أموال دولارية قُدرت بـ 60 مليون دولار وبترول استطاع أن يسد حاجة البلاد لسنة كاملة كما يروي سوار الذهب في أحـ.ـد لقاءاته

 

أصدر سوار الذهب قانون الانتخابات الذي أعاد العمـ.ـلية الانتخابية التي كان معمولا بها في فترة الستينيات من القرن العشرين، حيث تقسيم الدوائر بين “الخريجيين” و”الأقاليم”

تشكّل في تلك الفترة الأولى من انقلاب سوار الذهب ما سُمي بـ “التجمع” السياسي من بعض الأحزاب والمهنيين، واستُبعد فيه الإسلاميون من الجبـ.ـهة الإسلامية والإخوان المسلمين الذين أفرج عنهم سوار الذهب، ولم يُستدعوا إلى المشاركة في الحكومة المؤقته التي تشكّلت في 22 أبريل/نيسان بعد أسبوعين من الإطاحة بالنميري

برئاسة نقيب الأطباء جزولي دفع الله، الذي دفع ثمنا لمواقفه بالسـ.ـجن في عهد نميري، وذلك بحجة أنهم كانوا من أنصار ومـ.ـؤيدي النميري في سنوات حكمه الأخيرة.

خلال سنة حكم سوار الذهب، نشطت حركة الأحزاب من جديد، بل ظهرت أحزاب وتجمعات لا حصر لها بجانب الحـ.ـزبين الكبيرين “الأمة” المعبر عن الحركة المهدية بزعامة صادق المهدي الذي كانت تربطه علاقات قوية بالقذافي في ليبيا ومصر وبريطانيا، والحـ.ـزب الاتحادي الديمقراطي المعبر عن الختمية، كما ظهر الإخوان المسلمون من جديد بقـ.ـوة بزعامة حسن الترابي الذي راح يجول في الداخل والخارج تدعيما لمركز الإخوان داخليا وإقليميا بل ودوليا

وكذلك برز الحـ.ـزب الشيوعي السوداني، فضلا عن أحزاب وتجمعات أصغر مثل الحـ.ـزب الناصري، والبعثيين، أما الجنوبيون فكانوا على حنقهم الشديد من نميري، ورأوا في المجلس العسـ.ـكري الانتقالي برئاسة سوار الذهب “نميريين بدون نميري” كما قال زعيمهم جون قرنق.

ولعل ذلك الذي دفع سوار الذهب في هذه الفترة بإعلان أهداف المجلس العسـ.ـكري الانتقالي الممثلة في الوحـ.ـدة الوطنية بإجراء انتخابات ديمقراطية، ومعالجة أزمـ.ـة الاقتصاد، وإنهاء الحـ.ـرب في الجنوب، وأنه يأمل أن تعود الديمقراطية في البلاد خلال عام[9].

كان كلٌّ من المجلس العسـ.ـكري الانتقالي برئاسة الفريق سوار الذهب والحكومة المؤقتة على دراية بأنهما سيختفيان تماما عند انتهاء الفترة الانتقالية، ولم يدخل الطرفان كثيرا في مشاكسات حول التعديلات الدستورية المقترحة لا سيما ما يتعلق فيها بالشريعة الإسلامية تاركين هذه المسألة للجمعية التأسيسية الجديدة، وأصدر سوار الذهب قانون الانتخابات الذي أعاد العمـ.ـلية الانتخابية التي كان معمولا بها في فترة الستينيات من القرن العشرين

حيث تقسيم الدوائر بين “الخريجيين” و”الأقاليم”، وفي السادس من أبريل/نيسان من العام التالي على خلع الرئيس نميري، وبإشراف مباشر من الرئيس عبد الرحمن سوار الذهب أُجريت الانتخابات التي استمرت على مدار 12 يوما، اشترك فيها 4.5 مليون ناخب أدلوا بأصواتهم بسلام في 28 ألف مركز اقتراع[10].

أثبت المشير عبد الرحمن سوار الذهب، رئيس المجلس العسـ.ـكري الانتقالي، ووزير الدفاع السوداني، صدق التزامه بكلمته، وقام بالفعل بحل المجلس العسـ.ـكري الانتقالي والحكومة الانتقالية عند نهاية الفترة الانتقالية

نال حـ.ـزب الأمة 38% من المقاعد البرلمانية، كما نال الاتحادي الديمقراطي ما يعادل 29%، بينما أحـ.ـدث فوز الجبـ.ـهة الإسلامية بـ 17% من الأصوات مفاجأة في تلك الانتخابات بحصوله على هذه النسبة المرتفعة، بينما للمفارقة خسر زعيمها حسن الترابي في منطقته الانتخابية في الخرطوم بحري، أما بقية الأحزاب والتحـ.ـالفات فقد فازت بنسب متفاوتة.

أثبت المشير عبد الرحمن سوار الذهب، رئيس المجلس العسـ.ـكري الانتقالي، ووزير الدفاع السوداني، صدق التزامه بكلمته، وقام بالفعل بحل المجلس العسـ.ـكري الانتقالي والحكومة الانتقالية عند نهاية الفترة الانتقالية، وقد سأله أحـ.ـد الصحفيين يوما: هل التزمت بوعدك للسودان وأهله؟ فرد قائلا: “أضفتُ فوق تلك المدة عشرين يوما فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية، وقد اكتملت، فسلّمتُ مقاليد السلطة للحكومة المنتخبة الجديدة لرئيس وزرائها الصادق المهدي ثم انسحبتُ”[11]!

كان انسحاب سوار الذهب من رأس السلطة، كرئيس للسودان ووزير للدفاع، ذلك الرجل الذي ملك في يديه كل شيء في تلك الأشهر العصيبة بُعيد ثو.رة 1985، حيث الأموال والنفـ.ـوذ والعلاقات الممتازة بدول الخليج وليبيا ومصر، أمرا محيّرا للغاية، فقد كان بمقدوره أن يستمر على رأس السلطة ويجد مـ.ـؤيدين له من الداخل والخارج، أو أن يزيد في الفترة الانتقالية لتستمر أعواما بحجة عد.م استقرار الأوضاع وسيكون معه كل الحق في ذلك، لا سيما مع الأزمـ.ـة التي استفحلت في جنوب السودان، لكن الرجل آثر الالتزام بكلمته، والانسحاب من المشهد السياسي في نادرة أخلاقية قلما رأيناها في تاريخ الانقلابات العسـ.ـكرية في دول العالم العربي في القرن العشرين.

وقد سُئل في ذلك صراحة، فما كان منه إلا أن قال إن بعض أعضاء المجلس العسـ.ـكري الانتقالي آنذاك كانوا كلما ذكّرهم سوار الذهب بضرورة الإسراع والانضـ.ـباط في المواعيد لأنهم عما قريب سيُحـ.ـالون للتقاعد بعد تسليم السلطة للحكومة المنتخبة، كانوا يقولون له: رجاء أن تنسى هذا فإننا سنضطر لتمديد الفترة الانتقالية ولا محـ.ـالة. لكنه كان يرد في صرامة وحزم: هذا مستحيل، لقد أعلنّا عن فترة انتقالية مدتها سنة واحـ.ـدة وسنلتزم بكلمتنا للشعب[12]!

حقَّق سوار الذهب إنجازات مهمة من خلال رئاسته لمجلس أمـ.ـناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان، التي شيَّدت الكثير من المدارس والمستشفيات والمستوصفات ومراكز الطفولة وملاجئ الأيتام والمساجد
كانت صرامة سوار الذهب، وتصميمه على تسليم السلطة للمدنيين، نابعا من تكوينه الشخصي والفكري، وقرين صلة بالتجربة السودانية التي كان فكر الصحوة فيها يملأ الأجواء حينذاك

بل إنه كان على الدوام قريبا من الفكر والتيار الإسلامي وظهر ذلك بعد تقاعُده، وفي جولاته المشتركة مع الترابي حين زارا مصر في أثناء حكومة الصادق المهدي فيما بعد، وأيضا في زهده في المنصب، وقد استشهد في ذلك بما فعله معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية حين تنازل عن الخلافة الأموية وألقاها للأمة لتختار من تراه مناسبا لها، هذا ما ذكره سوار الذهب في لقائه[13]، وما تجلى في مناصبه التي ارتقاها فيما بعد.

فإنه أصبح من أشهر الشخصيات الفعالة في الدعوة؛ محليا وإسلاميا وعالميا، وقد حقَّق إنجازات مهمة من خلال رئاسته لمجلس أمـ.ـناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان

التي شيَّدت الكثير من المدارس والمستشفيات والمستوصفات ومراكز الطفولة وملاجئ الأيتام والمساجد، كما أنشأت محطات للمياه وحفرت مئات الآبار في أفريقيا، بل حاول قدر الإمكان المساهمة بوساطته حين كانت تضـ.ـرب الأزمـ.ـات السودان مثل أزمـ.ـة دارفور وألقى بمبادرة للوصول إلى حل في هذا الأمر[14].

ونتيجة لمشاركاته ونشاطه في مجال العمل الخيري والدعوي فقد مُنح جائزة الملك فيصل العالمية لخد.مة الإسلام في العام 2004م، وفي الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2018م

توفي الرئيس والمشير عبد الرحمن سوار الذهب عن عمر ناهز الثالثة والثمانين من عمره، موصيا أن يكون مثواه الأخيرة في المدينة النبوية في مقبرة البقيع، وقد تحققت وصيته، تاركا من خلفه نموذجا فذا ونادرا في المسألة السياسية والعسـ.ـكرية في تاريخ العرب المعاصر

الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *