مقالات

روسيا.. الاستعمار القديم الجديد

هيومن فويس

في أقل من قرن وبين عامي 1917 و1991م انتقلت روسيا بين ثلاثة عهود متناقضة، كان قاسمها الأعظم المشترك استعمار الشعوب التي حولها بطرق أهمها الإبادة الثقافية والديمجرافية والعسكرية وبمميزات مختلفة عن المستعمرين الآخرين بكونها تستعمر جيرانها باسم الصداقة والجيرة الحتمية.

ففي العهد القيصري الذي انتهى عام 1917م بمجزرة مروعة ذهب ضحيتها القيصر نيقولا الثاني وأفراد العائلة المالكة، وأتت بالحزب الشيوعي الروسي للحكم بعد مذابح مروعة، كان لأهل القوقاز النصيب الأكبر منها وخصوصاً الشركس والشيشان وتتار القرم.

فقد حرمت الحروف العربية وهي حروف الثقافة لكل المسلمين قراءة وكتابة، وتم تهجير هذه الأقوام نحو الجنوب، وتم تحويل الجوامع إلى زرائب، وحتى الأسماء الشخصية والأماكن تم تغييرها إلى الروسية، حتى إن إحدى القبائل الشركسية وهي الشابسوغ والتي كان عددها حوالي 60 ألف شخص وصلت إلى الأناضول والشام، وقد بقي منها 3 آلاف شخص فقط، بعد أن تركوا خطاً من القبور من جنوب القوقاز إلى مناطق سكناهم الجديدة.

أما مناطق وسط آسيا فلم تكن أقل حظاً من مناطق القوقاز، حيث تم زراعة مئات المستوطنات الروسية في كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان واختفت المساجد تقريباً، وتم طمس كل مظاهر الثقافة العربية الإسلامية بشكل همجي لا مثيل له، حتى إن الاحتفاظ بورقة واحدة بالحرف العربي يكفي لتجريم الأشخاص.

مع أن أهل القوقاز كانوا قد تركوا أثراً بيناً على مجمل الأدب الروسي كما جاء في أدبيات وقصص تولستوي وديستوفسكي وغيرهما، وفي هذا تفوقوا كثيراً على الفرنسيين في الاستعمار الثقافي ولكن بصورة هادئة.

وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية استخدم ستالين الشعارات الدينية لكسب تأييد الشعب الروسي لمواجهة الغزو الألماني، ولم تنطل هذه الحيلة على المسلمين التتار والقوقاز، فوضعهم ستالين في قائمة الخونة واتهمهم بالتعاون مع الألمان، وتم نفي مئات الألوف منهم إلى سيبيريا وآسيا الوسطى في قطارات مخصصة للمواشي.

حيث مات الكثير منهم أثناء الترحيل، حتى إن بعض المؤرخين يقدرون عدد من مات أثناء الترحيل بحوالي 100 ألف، وعلى طريقة القياصرة تم مسخ الآثار والثقافة التترية وجلب ألوف العوائل الروسية للسكن مكانهم، وأزيل الكثير من المساجد والجوامع، وصار العالم كله يعتقد بأن هذه البلاد لم تكن مسكونة بهؤلاء الناس، وأما ما يطلق عليها الجمهوريات السوفييتية فقد عانت من الإهمال ما لا يوصف من فقر وقلة خدمات ولم تتنفس إلا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، عاد التتار إلى شبه جزيرة القرم التي أصبحت جزءاً من أوكرانيا ليجدوا أخيراً أنفسهم في أحضان القيصر الروسي الجديد بعد احتلال هذه المنطقة من قبل الروس، وهنالك محاولات لاستعادة هويتهم المفقودة في أواسط التسعينيات.

شعر الشيشان بالغبن الذي لحقهم على مدار قرون، خصوصاً مسخ هويتهم الثقافية، فكافأهم الروس على طريقة هي مزيج من الهمجية القيصرية – الشيوعية، بمسح عاصمتهم جروزني من الوجود في نفس الوقت الذي كانوا يساعدون إخوانهم الصرب في مسح الوجود الإسلامي في البوسنة والهرسك من خلال مذابح يعرفها الجميع.

لقد عامل الغرب عموماً والأمريكيون خصوصاً غريمهم الروسي في تسعينيات القرن الماضي بكل ازدراء واحتقار، واعتقدوا أن هذا القرن لهم، فعاد الدب الروسي الجريح باقتصاده المتهرئ وقوته النووية المتنامية إلى المسرح الاستعماري شأنه شأن الجميع، فلم يجد إلا بلادنا لكي يحقق أحلامه المريضة خصوصاً والعم سام لا يهمه كثيراً من يموت هنا وهناك، فقد قال أحدهم عندما سأل أحدهم عن أعداد القتلى الهائلة بين المدنيين؛ أجاب بأننا لا نعد الجثث، وصار التصريح العلني عن حفظ المصالح ولو على جثث مئات الألوف في حلب وغيرها أمراً لا يستحون منه.

فالمصالح على دماء المسلمين أمر مقبول، فالمصالح الروسية لا تحدها أعداد الجثث الهائلة، ولا أعداد المناطق التي تعرضت للدمار، فكل شيء مباح، وكل الأسلحة مسموح بها طالما أن القتلى والمشردين يعيشون بجانب الإرهابيين الذين جاءت روسيا للقضاء عليهم!

هذه سخرية التاريخ الاستعماري من عهد الحصان القيصري إلى عهد الأقمار الصناعية في الزمن السوفييتي وما بعده، عقلية واحدة تجد التبريرات للقتل والدمار والاستعمار مهما كانت متهافتة، وهذا هو المنطق الروسي الذي لا يختلف عن غيره من المستعمرين رغم تغيير ردائه القيصري إلى الرداء الشيوعي ثم إلى رداء موقع من القيصرية الشيوعية، ولم يتعلموا من التاريخ شيئاً رغم هزائمهم القاسية في أفغانستان وتراجع اقتصادهم، فهم يعتقدون أن القوة كفيلة بكل شيء وهذا وهم كبير.

لقد نزع الاستعمار الروسي الجديد برقع الحياء تماماً، فقفز فوق الحدود ليمسح مدناً من الوجود، لا حاربته يوماً ولا هددت وجوده، وبكل صفاقة يعلنون أنها المصالح، فالمصالح صارت كلمة مقبولة كالحرية والديمقراطية طالما ينطق بها أصحاب الصواريخ النووية وتطبق فوق رؤوس الضعفاء.

جميع المقالات تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيومن فويس

المصدر: موقع المجتمع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *