مقالات

سوريا..بين الانتصار على الأسد والانتصار على الذات

هيومن فويس: أحمد عاصي

كثيراً ما أشعر بالدهشة عندما أستمع لخطاب أحد قيادات الثورة في سوريا وهو يتحدث عن رؤيته في بناء الدولة وعن شروطه التي لا يمكن أن يتخلى عن أي منها في بناء مشروعه الذي آن أوانه، وأينع ثمره وآت أكله وأستوى على سوقه، ولم يبقى من الأمر إلا أن يؤمن به الناس ليبدأ مرحلة جديدة وكأن بناء الدولة في سوريا بات أهون من تشكيل مجموعة مسلحة قوامها عشر مقاتلين ودعمها المادي لا يزيد عن عشرة آلاف دولار في الشهر.

والذي يثير الدهشة أكثر عجز هذا الفصيل وقائده عن تحقيق مشروع خدمي بسيط هم في أمس الحاجة له في منطقة يسيطروا عليها منذ أكثر من ثلاثة أعوام علما أن بناء الدولة يبدأ من المشاريع الصغيرة التي تعتبر النواة الأساسية التي من خلالها يتوسع المجتمع ويكبر وينمو اقتصاده وترص صفوفه حتى يصل إلى الدولة المنشودة، وعندما تتبع هذا الواقع وتقف عند تفاصيله يتبين لك جلياً حقيقة بناء الدولة التي نادى الجميع بها وتعلم علم اليقين أن هذه المشاريع في طريقها للانهيار لأن بناءها أساساً لم يعتمد على ركيزة حقيقة تحفظها من عوامل الطبيعة التي تصادف مشاريع بناء الدول والمجتمعات.

فما أن تتلقى الصدمة الأولى حتى تنهار رأسا على عقب وتنسف من أساسها ولا تحتاج لأكثر من حقبة زمنية بسيطة لا تحسب في حساب الثورة حتى تنسى ولا يأتي ذكرها على لسان أحد، وكان حرياً بالثوار في سوريا أن يتعلموا ذلك من التجارب التي وقعت أمامهم فكتائب الفاروق وصل بها الحد في أحد الأيام إلى مرحلة لم يصل إليها أي تشكيل آخر وحذوا نفس الخطوات التي تحذوها كل الفصائل الآن وبدؤوا يوهموا أنفسهم بأنهم أصحاب مشروع وأن المستقبل طاوع لهم، وآن الأوان لأن يرسموا سوريا كما يحلو لهم ولكن ما أن تعرضوا لصدمة صغيرة حتى نسف مشروعهم ولم يبقى منهم اثر يذكر.

المدهش في الأمر أيضا أن أحد ما استفاد من هذه التجربة في شيء وما أتعظ منها بل على العكس تماماً مشت كل الفصائل والتشكيلات السورية في الخطوات نفسها وسلكت السبل ذاتها ورسمت المستقبل عينه ومنها من قضى نحبه ومنها من ينتظر وما بدلوا في ذلك تبديلا. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم كيف لعقلية مثل هذه أن تبني بلداً وكيف لأناس يفتقدوا كل مقومات الحياة أن يبقوا أحياء وكيف لمن لا يعلم عن الدولة إلا ما خطه على الورق أن يقيم دولة في عالم تكالب عليه من كل الأطراف حسب زعمه وروايته التي ما برح يتحدث بها القاصي والداني.

وإن صدقت نظرية المؤامرة التي لا زال الثوار يرددونها يوماً بعد يوم ويعلقون عليها كل ما أوتي بأيديهم من فشل فكيف لهم أن يتخلصوا منها بمزيد من العشوائية والتخبط والسير وراء المجهول. لقد أتيحت للثوار في سوريا الفرص الكثيرة في غفلة من المجتمع الدولي الذي لا يزال يكيد لهم المكائد على حد تعبيرهم لكنهم ما استغلوا وما استثمروا أي منها، بل على العكس وقفوا كل منهم على حده وكل واحد يعتبر نفسه المخلص الأوحد الذي يُفترض على الناس جميعا أن يبايعوه ويسيروا خلفه ليجد نفسه في نهاية المطاف محاصراً من كل الاتجاهات.

ولا يملك أن يغير في واقع الأمر شيئا ولا يستطيع إلا السير في الطريق الذي رسم له والذي خاف منه طوال الأيام المنصرمة ويصبح كما قال المثل (بقي يخوف الناس من الغول حتى أكله). واليوم بعد الذي آلت إليه الأمور في سوريا فإن الثورة تعالج رمقها الأخير وقد وصلت حد ما عاد أحد يطيق معها صبرا وما عاد المواطن في سوريا يملك تحليل أو تفسيرا منطقيا لحقيقة ما يجري، والتجارب الجهادية والثورية التي طبقت على مدار الأعوام الماضية أثبتت فشلا ذريعا قائما على عقلية متعفنة قوامها الاتهام والتشكيك والاستهزاء بالآخرين والاتهام بالجملة والتعصب للرأي.

إضافة إلى إغراق كاهل الناس بالمصطلحات الدينية والشعارات البراقة التي تحمل خطابا دينيا مرتفعاً لا يمكن للشعب السوري اليوم أن يقرأه وإن قرأه لا يمكن أن يحلله، وإن حلله لن يستطيع فهمه، وإن فهمه فلن يجد المتسع من الوقت لتطبيق شيء منه، وفي هذه الحال يجب أن تنظر الفصائل إلى نفسها من منظار الحقيقة وتقيس وجودها على حسب المساحة التي تشغلها، وتمد أرجلها على قدر بساطها.

وأن تدرك حقيقة ما آل إليه الواقع بسبب مشاريعهم التي لم تنضج بعد ولم يأن أوانها وأن يخلوا السبيل أمام الشعب السوري لأن يختار مستقبله وأن يصل إلى نهاية مأساته وعلى كل الفرقاء في الثورة السورية أن يعيدوا حساباتهم وأن يجلسوا على طاولة واحدة ويعملوا على ردم كل الفجوات التي عمقها التعصب ووسعتها النفوس الطامحة والأهواء المتضاربة وأن يخلصوا في نهاية المطاف إلى جسم واحد مبني على أسس سليمة ليكون ممثلا وحيدا للشعب السوري بكل أطيافه.

وأن يخلصوا إلى ورقة سياسية يمكن أن تقدم إلى المجتمع الدولي وتكون قابلة للفهم والتطبيق لتكون الخطوة الأولى في سبيل إيقاف شلال الدم السوري فالنظام السوري سقط منذ أشهر الثورة الأولى ولم يعد بيننا وبين الانتصار عليه إلا أن ننتصر على أنفسنا ونضع حدا لأحلامنا الطامحة وأفكارنا العابرة ومشاريعنا الواهية.

جميع الآراء تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيومن فويس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *