دراسات

الاستراتيجية الروسية في غوطة دمشق بين الحل السياسي والحسم العسكري

هيومن فويس

تبقى منطقتا ريف حمص الشمالي والغوطة الشرقية ـ على وجه الخصوص ـ وحيدتين في مسارهما السياسي والعسكري، وتحت رحمة عدو الأمس وضامن اليوم “روسيا”، وإن كانت الاستراتيجية الروسية جادة بإنهاء الصراع في الأشهر القليلة القادمة في الغوطة الشرقية ـ قبل نهاية عام 2018م، فإن الخيار العسكري وخيار الحصار والتركيع سيكلفها سنتين على الأقل، عدا عن الخسائر المادية والاعتبارات الدولية، ما يجعله خيارا بعيدا وغير ممكن، ويحصر ما يجري بين العجز الروسي وعملية مراوغة واستخدام لأوراق القوة للفوز بأفضل البنود بأي اتفاقية متوقعة.

مقدمة

مع استقرار الأمور في منطقة خفض التصعيد في درعا وضبابيتها في إدلب بسبب التجاذبات الحاصلة بين القوى الإقليمية والدولية، تبقى منطقتا ريف حمص الشمالي والغوطة الشرقية على وجه الخصوص، وحيدتين في مسارهما السياسي والعسكري وتحت رحمة عدو الأمس وضامن اليوم “روسيا”.

بعد توقيع اتفاق خفض التصعيد والذي من المفترض أن يفك الحصار ويتيح حرية التبادل التجاري وإدخال البضائع دون أي أتاوات وغير ذلك، تمهيدا لحل سياسي شامل، إلا أن أيا من بنود تلك الاتفاقية لم يطبق عدا تخفيف وتيرة القصف الجوي مؤخرا، بل تم إغلاق المعابر نهائيا في غوطة دمشق الشرقية، لترتفع الأسعار بشكل متسارع ولتصل لأكثر من عشرين ضعفا عنها في دمشق، حيث كان هذا الارتفاع هو الأعلى والأسرع منذ بدأ الحصار، ما يهدد بكارثة إنسانية وشيكة تذكرنا بما حدث ببلدة مضايا في حال استمرار الحصار.
في هذه الورقة البحثية نحاول تفكيك المشهد وقراءته قراءة تحليلية مع محاولة لتفنيد الاستراتيجية الروسية وفهم ما ترمي له في غوطة دمشق الشرقية.

أولاً: تقييم اتفاق خفض التصعيد على صعيد الأطراف الفاعلة فيه
(مدى التزام ومصالح كل طرف)

أ -قوى الثورة السورية … موقف دفاعي وضعف سياسي.

لا شك أن بنود اتفاق خفض التصعيد الذي تم توقيعه مع كل من جيش الإسلام وفيلق الرحمن لا تُخِّلُ بأي من ثوابت الثورة ولا تتضمن أي تنازل من قبلهما، ولا تراجعا عن أي بقعة أرض، أو تنص على تسليم قطعة سلاح خفيف أو ثقيل[1]، بخلاف اتفاقيات المصالحة التي أبرمت في مناطق أخرى من محيط دمشق ورُفع في بعضها علم النظام السوري وتمت عقبها عمليات التهجير الديمغرافي، ويمكن تقييم بنود الاتفاق بالنسبة لقوى الثورة في الغوطة الشرقية ومدى التزامهم بها من خلال النقاط التالية:

التزمَتْ قوى المعارضة بإيقاف إطلاق النار تماما عدا عن عمليات الدفاع المشروع عن مواقعها.
لم تلتزم قوى المعارضة بإيجاد حل لتنظيم “هيئة تحرير الشام” وأغفلت الملف.
تصب غالب بنود الاتفاق في صالح المعارضة والتي تتيح لها فترة استراحة وإعداد وتعترف بها كطرف في العملية السياسية.
يشكل وجود اتفاقيتين بنفس المضمون الثغرة الأكبر على صعيد المعارضة التي كرست الانقسام وظهرت بموقف ضعيف أمام دولة عظمى.
يشكل البند المتعلق بإيجاد حل لـ “تنظيم هيئة تحرير الشام” ثغرة أخرى قد تولد اقتتالا جديدا بين فصائل المعارضة.
ب _الضامن الروسي … نحو عودة المكانة الدولية:

استطاعت روسيا عبر خطة خفض التصعيد التي بدأت في أروقة أستانا وتم الاتفاق على بعض آلياتها في هامبورغ والقاهرة، أن تحد من الدور الإيراني وتحجمه في هذه العملية السياسية، حيث يشكل المشروع الإيراني تحديا داخليا ـ في مناطق سيطرة النظام ـ للمصالح الروسية، يتوجب إزاحته من الطريق، مع تفضيل الطرق المتسمة ببعض الدبلوماسية في التعامل مع إيران ” شبه الصديق وشبه العدو”؛ ولذلك رأينا روسيا فضلت التقرب من قوى المعارضة إلى حد يتيح لها مساومتها والاتفاق معها على رؤية سياسية تضمن المصالح الروسية وتقف في وجه المشروع الإيراني في نفس الوقت، والذي لا يرى سوى الخيار العسكري في مناطق المعارضة، والقادر على تجنيد الوكلاء بخلاف روسيا العاجزة عن ذلك، والتي ترفض في الوقت نفسه تحول سورية إلى جيب إيراني[3].

وبذلك يمكن تقييم الاتفاق بالنسبة للروس ومدى التزامهم به عبر النقط التالية:

نجحت روسيا بلعب دور الوسيط والخروج من خانة العدو بالنسبة للثورة ـ ولو ضمن بنود هذه الاتفاقية ـ حيث اصطلح على روسيا بمصطلح الضامن لهذا الاتفاق.
نجحت روسيا بتحجيم الدور الإيراني في منطقة الريف الدمشقي ومنافستها بعد أن كانت منطقة نفوذ شيعية خالصة.
لم تلتزم روسيا ببنود الاتفاق القاضية بفك الحصار وحرية التبادل التجاري وإلزام النظام بذلك.
استطاعت روسيا ضبط خروقات سلاح الجو، في حين فشلت بضبط قوات النظام التي تحاول مرارا التقدم على الأرض.
ج _ إيران … الخاسر الأكبر في صراع الحلفاء:

لن يُسمح لإيران أمريكيا ولا روسيا بتحقيق مشروعها الإقليمي وإكمال هلالها الشيعي، رغم كل التضحيات الإيرانية في سوريا

ورغم التساهل الأمريكي الواضح معها في العراق، إلا أن هناك حدودا أمريكية وخطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها، ولعل زرع قاعدة التنف في الوسط السوري إلى جانب الحدود الأردنية والعراقية إحدى تلك الخطوط، التي ستمنع أي طريق بري من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا، والأمر مماثل بالنسبة لروسيا، رغم الشراكات التكتيكية في المعارك في سوريا، إلا أن إيران بدت عاجزة أمام الدب الروسي الذي استلم زمام المشهد العسكري والسياسي وأبعدها من الجنوب بعد اتفاق هامبورغ مع الولايات المتحدة[4]، وأقصاها من الشمال بالاتفاق مع الأتراك، ويحاول زعزعة موطئ قدمها في الريف الدمشقي بقيادة جولات المفاوضات مع المعارضة السورية هناك، لتسعى إيران وحلفاؤها لإفشال مسار تلك المفاوضات وعرقلتها، وبذلك يمكن تقييم الاتفاق بالنسبة للفاعل الإيراني وموقف إيران منه من خلال نقطتين رئيستين:

يمثل الاتفاق إزاحة لإيران من المشهد السياسي لسوريا من قبل حلفائها الروس.
ستسعى إيران للضغط على النظام لخرق الاتفاقية وإحكام الحصار والرجوع للخيار العسكري الذي يتيح لها ترسيخ وتوسيع نفوذها في سوريا.
د _ النظام السوري … بين مطرقة الروس وسندان الإيرانيين:

يدرك النظام أنه لم يكن ليصمد طول هذه الفترة لولا الدعم الإيراني والروسي، بل إن وزير الخارجية الروسي قد صرح في وقت سابق أنه لولا تدخلهم لسقطت دمشق[5]، كما تتجلى أصعب مهمة للنظام في التوفيق بين مصالح حلفائه الروس والإيرانيين، حيث حار نظام الأسد ـ الولد غير الشرعي لهما ـ مع من يذهب بعد طلاقهما واختلاف مصالحهما، فإن روسيا رغم تمسكها الحالي بنظام الأسد، إلا أنها جاهزة للتخلي عنه في حال أبدى ميله نحو الحليف الإيراني، ويمكننا أن نقرأ ضمن تصريح ألكسندر لافرينتيف ـ المبعوث الخاص لبوتين في سوريا ـ إثر لقائه ببشار الأسد الأسبوع الماضي نبرة توبيخية لدمشق، حيث صرح: لقد التقيت الرئيس السوري بشار الأسد خلال الأسبوع الماضي، لقد كنا مهتمين بطبيعة الحال بتقييم تطور الوضع في سوريا، والأهم من ذلك، أردنا أن نرى مزاج الحكومة المركزية لتسوية سياسية للوضع، وكيف يرون الإجراءات المستقبلية في هذا الاتجاه، وأن نرى هل ما زالت دمشق متمسكة بالالتزامات التي أطلقتها والمتمثلة بالانتقال إلى تسوية سياسية بعد انتهاء المرحلة الرئيسية من الحرب ضد الإرهاب الدولي، هذه القضايا بحثتها خلال الحوار المفصل مع الرئيس السوري والذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات”، من المهم جدا أن يبحث بشار الأسد عن سبل المصالحة الوطنية ـ تحدثنا عن ذلك بتفصيل كبير ـ إطلاق عملية الحوار الوطني بين مختلف أطياف المجتمع السوري، وقد تركز البيان الختامي للرئيس الأسد على أن دمشق لا تزال ملتزمة بإطلاق الإصلاح السياسي، وهذا مهم جدا، وبالتالي إعداد مشروع دستور جديد وبدء التحضير للانتخابات البرلمانية والرئاسية، والتي ينص عليها قرار مجلس الأمن 2254.[6] والذي ينص على وقف العمليات القتالية ضد المعارضة باستثناء التنظيمات الإرهابية وإطلاق عملية سياسية وانتخابات حرة.

إلا أن إيران التي تتمتع بنفوذ أقوى على أركان النظام وعلى جبهات الغوطة، حيث تنتشر الميلشيات المؤيدة لها هناك، تفضل الحسم العسكري الذي يدعم وجودها ويحمي مصالحها، وبين هذا وذاك يسعى النظام السوري لإثبات “سيادته” المزعومة على كامل التراب السوري، سواء بالحل العسكري المدعوم إيرانيا بالدرجة الأولى، أو عبر المصالحات الوطنية التي تقضي بتسليم السلاح ورفع العلم السوري وتحول المعارضة للجان شعبية دون الدخول بأي عملية سياسية، وينقسم ضباط النظام السوري وفرقه العسكرية وأفرع مخابراته بين الجنوح للاستراتيجية الروسية أو الإيرانية، وبذلك لتسير مصالحه من الاتفاق ومدى التزامه به في النقاط التالية:

لا تحتوي بنود الاتفاق أي شرط ينص على التراجع أو تسليم السلاح أو رفع العلم السوري، لذلك يسعى النظام بالضغط على الروس لنسج اتفاقية جديدة على غرار المصالحات الوطنية التي عقدها في التل وقدسيا والهامة، ولو اقتضى ذلك إلغاء التهجير الديمغرافي. ويميل لهذا الحل الذي ـ لا يخرج عن المسار السياسي ـ عدد من ضباط النظام وأعمدته.
لم يلتزم النظام بإيقاف إطلاق النار بل استمرت محاولات اقتحامه على جبهات جوبر وعين ترما ومنطقة الحواش وأوتوستراد دمشق ـ حمص بدعم من الحليف الإيراني لإفشال الاتفاقية ومتابعة قواته ومليشياته الأعمال القتالية.
ھ _ السعودية وقطر … خلاف مُصَّدر وتراجع في الدور:

تمتاز الغوطة بضعف تأثير القوى الإقليمية والدولية فيها، لكونها منطقة محاصرة غير حدودية، لا تتصل بأي حدود مع دول الجوار، فمن الواضح عدم اهتمام الأتراك أو الولايات المتحدة بها، خلافا للمناطق الشمالية أو الجنوبية للبلاد، إلا أن دعم دول الخليج لفصائل المعارضة في غوطة دمشق ماديا ومعنويا بدا واضحا منذ بداية الثورة السورية، وغير مستغرب في ظل التخوف من التمدد الإيراني في المنطقة، وكانت السعودية وقطر هما الفاعلَين الأبرز من بين دول مجلس التعاون الخليجي، مع الدور الثانوي الذي لعبته الإمارات أيضا، إلا أن السعودية وقطر اختارتا مسارين اثنين لدعم المعارضة، مسارا علنيا عبر غرفة عمليات الموك في الأردن ـ والذي تم إيقافه مؤخرا ـ ، ومسارا سريا بدعم فصائل على الأرض بشكل مباشر أو غير مباشر وفق معايير إيديولوجية وأجندات سياسية رامية للعب دور فاعل وامتلاك ورقة قوية في محيط العاصمة دمشق، وقد انعكس الدعم الخليجي وخلاف الأجندات هذا على حالة الفصائل في الغوطة الشرقية، إلا أنه مع بدء الأزمة الخليجية (السعودية ـ القطرية)، وبدء حصار قطر بقيادة مصرية سعودية، ومع رفض روسيا اقتراح قطر باستضافة محادثات حول سوريا[8]، بدا تراجع الدور القطري واضحا، في حين بدا الدور السعودي أكثر قوة ومرونة، حيث لعبت القاهرة ـ الشريك السعودي في حصار قطر ـ دورا في اتفاقيات خفض التصعيد، وتغيرت نبرة الرياض تجاه الأزمة السورية ككل. وبإمكاننا تقييم الموقف القطري ـ السعودي من خفض التصعيد بالتالي:

تَرَاجعَ الدورُ القطري نتيجة الأزمة الخليجية والحصار المفروض عليها، فلمْ تلعب قطر أي دور إيجابيا كان أم سلبيا في اتفاق خفض التصعيد، في حين يوجد احتمال ضئيل للسعي القطري لإفشال خطة خفض التصعيد عبر دعم أعمال عسكرية والتحكم بملف “هيئة تحرير الشام” بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

تَبَدَّلَ الموقفُ السعودي نتيجة بعض التفاهمات مع موسكو، ودفعت الرياض بالمعارضة السورية نحو المسار السياسي وفق الرؤية الروسية، حيث أشاد لافروف أثناء جولته الأخيرة في المنطقة بجهود السعودية في توحيد المعارضة[9]، وقال في إحدى التصريحات: إن السعودية جادة بالفعل في تسوية الأزمة السورية، وأكدت دعمها لعملية المفاوضات في أستانة.[10]في حين قد يكون خلف هذه التفاهمات الروسية ـ السعودية، تطمينات روسية بتحجيم الدور الإيراني وعقود واتفاقيات اقتصادية، مع عدم إغفال تأثير الوضع الداخلي الذي تعيشه السعودية والتعقيدات التي تواجهها في اليمن.
ثانياٌ: الموقف العسكري في الغوطة الشرقية

أ _ التحصين والدفاع

منذ سنة حتى الآن لم تتراجع قوات المعارضة تراجعا واضحا إلا ما خلا من سقوط بعض النقاط هنا أو هناك، تم استعادتها في وقت لاحق، فحسب بعض العسكريين الموجودين في الغوطة؛ كان التراجع ممكنا فيما مضى مع امتلاك المساحات الشاسعة أما مع فقد العمق الدفاعي وضيق مساحة المناورة لم يعد التراجع متاحا أبدا عن أي شبر بالنسبة لهم، ومع استمرار المعارك الهجومية من قبل النظام في عين ترما ومنطقة الحواش وأوتوستراد دمشق ـ حمص يتكلف النظام خسائرا كبيرة جدا[11]بعد عمليات التحصين المستمرة التي قامت فصائل المعارضة بإعدادها وتجهيزها، حيث أصبح التنقل بين الخطوط الدفاعية عبر شبكة معقدة من الخنادق والأنفاق في معظم الجبهات، ما يبعد إمكانية حدوث أي انهيار سريع.

كما يجدر التنبيه إلى الخزان البشري الهائل لمقاتلي المعارضة في الغوطة، خلافا لمناطق محيط دمشق كداريا التي لم تضم أكثر من ستة آلاف شخص غالبيتهم من المدنيين، إضافة لامتلاكهم لبعض أوراق الضغط الأخرى المتمثلة بموقعهم الجغرافي الملاصق للعاصمة، ووجود عدد كبير ـ نسبيا ـ من أسرى النظام بين أيديهم، إضافة للخبرة القتالية العالية التي يمتاز بها مقاتلو الغوطة نتيجة خوض المعارك وتعرضهم لحصار سابق، على خلاف الهامة والتل وقدسيا وحلب التي تم تهجيرها جميعا.

ب _ الاستراتيجية الهجومية

على الرغم من أن فك الحصار وفتح الطريق من قبل الثوار بات غير ممكن عسكريا بعد سيطرة النظام على أجزاء واسعة من البادية الشامية، وكذلك مع تعقيدات فتح أي معركة باتجاه دمشق، فإن الغوطة قادرة على فتح عدة معارك تكتيكية ضخمة من محاور مختلفة (إدارة المركبات ـ المخابرات الجوية والمحافظة ـ العباسيين ـ حاجز جود وجرمانا ـ المليحة ـ المنطقة الشرقية واستعادة السلة الغذائية ـ عدرا ـ مخيم الوافدين ـ الجبل وضاحية الأسد …وغيرها) وأغلب هذه المعارك الهجومية باتت شبه جاهزة تنتظر إشارة البدء والفشل النهائي للمفاوضات، في حين قد تتيح هذه المعارك للمعارضة كسب سنتين من الوقت على الأقل وتعطي قوة في المفاوضات السياسية، عدا عن الغنائم والأسرى والخسائر الضخمة التي ستتكبدها قوات النظام.

ج _ الحاضنة الشعبية والمشارفة على كارثة إنسانية

تعهد الروس أكثر من مرة أثناء المفاوضات بفتح المعابر وإدخال البضائع ولم يفوا بالتزاماتهم، بل على العكس من ذلك، يتم القصف والاقتحام في اليوم التالي للاتفاقيات والوعود وهذا يدل على عدم جدية الروس في ضبط النظام وحلفائه ووجود خطاب علني واستراتيجية غير معلنة مختلفة عن هذا الخطاب تهدف للضغط على الفصائل لتتحول لأداة بيد الرئيس الروسي من خلال تأليب الحاضنة الشعبية التي باتت مستعدة لأي حل يوفر لها رغيف الخبز بعيدا عن أحلام الانتخابات الحرة والمشاركة السياسية وغيرها، مع وجود احتمال لعدم قدرة الروس على ضبط النظام وإيران وميلشياتهم المختلفة فيما بينها أيضا.

وبين هذه المصالح المتناقضة تم إغلاق معبر مخيم الوافدين الوحيد في الغوطة الشرقية إغلاقا نهائيا؛ ليرزح أكثر من 350 ألف مدني بينهم أكثر من [12]122000 طفل تحت حصار خانق، وليُسجَل العديد من حالات الوفاة الناتجة عن نقص الدواء أو سوء التغذية، كان آخرها وفاة طفلين الأسبوع الماضي، ولتمتلئ المشافي بعشرات حالات سوء التغذية التي أصابت الأطفال، حيث تقبع الغالبية العظمى من سكان الغوطة تحت خط الفقر وتعاني من البطالة والأمراض جراء الحصار المفروض منذ عام 2012، حين بدأ النظام عملياته في المنطقة الشرقية للغوطة وسيطر على معظم سلتها الغذائية، فيما خففت الأنفاق التي تم حفرها بين الغوطة الشرقية وحيي برزة والقابون من وتيرة الحصار إلا أن النظام قام بتفجيرها بعد إحكام السيطرة على حيي القابون وبرزة في 14/5/2017، وبينما سمح النظام بإدخال بعض المواد الغذائية، قام بفرض الأتاوات عليها ليبلغ ثمنها ضعفين أو ثلاثة أضعاف ثمنها الحقيقي، وبعد توقيع اتفاق خفض التصعيد في 20/7/2017 والذي من المفترض أن يتيح حرية التبادل التجاري ويفك الحصار ويتيح إدخال المواد الغذائية بدون فرض أي رسوم وأتاوات، تم إغلاق المعبر الوحيد “مخيم الوافدين” ومنع دخول البضائع نهائيا، لتجتاح الغوطة موجة غلاء جديدة وتتوقف الأفران عن العمل وتتصدر الغوطة المناطق الأكثر غلاء في العالم، ما يؤذن بحدوث كارثة إنسانية وشيكة في ظل انتشار البطالة وقلة فرص العمل، حيث تعيش غالبية الأسر على وجبة واحدة يوميا لا تسد الرمق ولا تحقق أي تكامل غذائي.

ومع عقد مؤتمر أستانا 7 تم السماح بإدخال قوافل المساعدات الأممية بإيعاز روسي في عملية تغطية على حصار الغوطة، وتجنبا للضغط الدولي الذي تتعرض له روسيا إزاء الملف الإنساني في الغوطة الشرقية، في حين أكد ناشطون أن تلك القوافل لن تسد حاجة الغوطة لأكثر من عدة أيام في أفضل الأحوال وتم وصفها بإبرة مهدئ خاصة مع اقتراب موعد عدد من المؤتمرات الدولية الخاصة بسوريا، وبعد إطلاق عدد من النشطاء هاشتاغ “الأسد يحاصر الغوطة” والذي حقق انتشارا واسعا على وسائل التواصل ولاقى اهتماما حقوقيا وإنسانيا كبيرا بملف الغوطة.

ثالثاً: تحدي السيناريوهات بين العملية العسكرية والعملية السياسية

بعد توصيف حالة الفاعلين في اتفاق خفض التصعيد وسبر مواقفهم أمكننا التنبؤ بالسيناريوهات المتوقعة للغوطة الشرقية في ظل هذا الاتفاق:

أ _ السيناريو الأول: الحرب الشاملة على غرار حملة السيطرة حلب

بالرغم من أن روسيا قادرة ـ من الناحية النظرية ـ على تدمير الغوطة وتحويلها لحلب أو غروزني ثانية وتطبيق عملية تهجير سكاني، إلا أن هناك العديد من الاعتبارات التي تمنع الروس من ذلك:

■الاعتبارات الاقتصادية:

نشرت مجلة جينز العسكرية البريطانية دراسة كشفت فيها عن الإنفاق اليومي الروسي على عمليات موسكو العسكرية في سوريا.

وقالت المجلة: إن روسيا تنفق قرابة 2.4 مليون دولار على الأقل يوميًا، فيما أشار الخبراء الذين أنجزوا الدراسة إلى أن النفقات يمكن أن تكون ضعف الرقم المذكور، بحدود 4 ملايين دولار يوميًا.

وتطرقت المجلة لتكلفة عمل الطائرة الحربية في الساعة، لافتةً إلى أنها تكلف قرابة 12 ألف دولارًا أمريكيًا، بينما تكلف ساعة عمل الطيران المروحي نحو 3 آلاف دولار.

ولفتت الدراسة إلى أن الطائرات المقاتلة الروسية تطير في الأجواء وسطيًا 90 دقيقة، ما يعني أن التكلفة اليومية للطائرات يساوي 750 ألف دولار، بالإضافة إلى 750 ألف أخرى تنفقها روسيا ثمنًا للذخائر المستخدمة في عملياتها خلال 24 ساعة.[13]

■الاعتبارات السياسية:

تعتبر روسيا نفسها، أنها قد شارفت على إنهاء الحرب في سوريا وأنها تقود العملية السياسية هناك، وبدا ذلك واضحا في تحركاتها خلال تبنيها لخطة خفض التصعيد بعيدا عن أروقة الأمم المتحدة وبعيدا عن نظرة “بشار الأسد” الحالمة باستعادة “كل شبر” من أرض سوريا، كما بدا ذلك واضحا في تصريحات الدبلوماسيين والعسكريين الروس، حيث اعتبرت هيئة الأركان العامة للجيش الروسي في بيان سابق أن الحرب توقفت “عمليا” في سوريا.

وأوضح بيان صادر عن رئيس مديرية العمليات في هيئة الأركان الفريق سيرغي رودسكوي، أن “الوضع في مناطق خفض التوتر في سوريا تغير جذريا”.

وأضاف البيان أن “الجيش السوري بمساعدة القوات الجوية الروسية، لا يحارب المعارضة في الوقت الراهن، بل يسعى فقط لدحر تنظيم داعش من المناطق التي يسيطر عليها”.[14] كما بدا ظاهرا في الآونة الأخيرة توجه موسكو للحل السياسي في سوريا وتفضيله على تحقيق انتصار شامل للأسد، ولعل قيادتها للعملية السياسية تسمح لها بالظهور كقوة عظمى راعية للحل السياسي لا يمكن تجاوزها، بخلاف لو فضل الحسم العسكري الذي قد يورطها بمستنقع شبيه بالمستنقع الأفغاني أو الشيشاني، ويكسر الهيبة الروسية ويعريها أمام المجتمع الدولي بدلا من أن يعيد روسيا كقوة عظمى ضمن النسق الدولي، حيث يبقى الخيار العسكري مغامرة خطرة يمكن الاستعانة بها عند الضرورة القصوى فقط.

■الاعتبارات العسكرية:

أخذت روسيا في كل عملياتها العسكرية دور التغطية الجوية، في حين تولت قوات النظام والميليشيات الإيرانية دور التقدم على الأرض، ما يعني أن أي عملية محتملة في الغوطة سيقطف الإيرانيون ثمرتها حيث سيسيطرون على ما سيتم تحريره، يضاف لذلك إدراك الروس لإمكانيات الغوطة في الدفاع والهجوم خاصة مع كونها منطقة محاصرة، ما يزيد من شراسة مقاتليها ويرفع من خسائر الحرب فيها ويطيل أمد الصراع فيها لأكثر من سنتين ربما في حين تبحث روسيا عن مخرج سريع للأزمة السورية تخرج فيه منتصرة.

■الاعتبارات الأمنية المستقبلية:

يضاف لما سبق أن روسيا لا تريد أن تجعل من نفسها عدوا لكل الشعب السوري، خاصة مع إدراكها لحجم المعارضة وقوتها وصعوبة القضاء الفعلي عليها، إذ أن الخيار العسكري ولو أوقف الحرب من منظور خارجي، إلا أنه لم يعالج أسبابها وسرعان ما سيعود عدم الاستقرار الأمني وتعود حرب العصابات وعمليات التفجير، في حين لا ترغب روسيا أن يعكر صفو مصالحها الاقتصادية والعسكرية تفجير أنبوب غاز هنا وضرب قافلة روسية هناك، بل تبحث عن حل أكثر ديمومة يتفق مع عقودها الموقعة لأكثر من خمسين عاما.

ب _ السيناريو الثاني: ترويض المعارضة لترضخ لمصالحة وطنية بقيادة روسية.

في حين قد يكون السيناريو الأرجح للاستراتيجية الروسية في الغوطة هو عملية ترويض وتطويع للمعارضة لتقبل بسقف متدنٍ من المطالب، للنزول تحت صيغ المصالحات لا المفاوضات السياسية أو الحكم الذاتي على غرار ما حدث في مناطق ريف دمشق قبل عمليات التهجير، والتي تشابهت بنود اتفاقياتها مع النظام إلى حد بعيد ويمكن تلخيصها بعدد من النقاط:

– البداية بهدنة ووقف لإطلاق النار.

– خروج وفد يمثل المنطقة ويتكلم باسمها للتفاوض مع ممثلين عن النظام من ضباط في الحرس الجمهوري وضباط في القصر الجمهوري وفي المخابرات وعدد من رجال النظام رفيعي المستوى، وأحيانا زيارة إلى القصر الجمهوري للقاء بعض المسؤولين فيه.

– تسجيل أسماء عدد من أبناء هذه المناطق ليشكلوا لاحقا حواجز مشتركة مع عناصر النظام على مداخل مناطقهم.

– التعهد بعدم الاعتداء على عناصر النظام.

– رفع علم النظام على أي مبنى حكومي مترافقا مع زيارة مسؤول في نظام الأسد لهذه المنطقة للتصوير ولإحراز نصر إعلامي ومعنوي للنظام.

-“تسوية” أوضاع عدد من مقاتلي المعارضة ليشكلوا نواة “لجان دفاع وطني” في هذه المناطق.

-السعي لمعالجة ملف المعتقلين والمفقودين.

– مقابل فتح ممر إنساني لهذه المناطق والسماح لأهلها بالدخول والخروج منها وإليها ووقف قصفها واستهدافها.[15]

لكن مع ذلك قد تعطى الغوطة الشرقية امتيازات أخرى تتناسب مع حجمها وإمكانية فصائلها، إلا أن تلك المصالحة يجب أن تكون تحت عين الضامن الروسي ووفق مصالحه لضمان تحول فصائل المعارضة لأداة بيد القيادة الروسية. ويتم الضغط على المعارضة لتخضع لهذا السيناريو عبر الحصار الحالي والقصف وتأليب الحاضنة الشعبية، مع الاستفادة من حالة الانقسام والمفاوضات المزدوجة وذريعة الإرهاب في استمرار العمليات العسكرية على نفس الدرجة من التصعيد، وخاصة في المناطق الاستراتيجية بالنسبة للنظام كجوبر وعين ترما، والتي تتيح له السيطرة على الطرق الرئيسية (المتحلق الجنوبي وتفعيل أوتوستراد دمشق ـ حمص) إضافة لتأمين طوق العاصمة دمشق من تهديدات المعارضة، فلا تمانع موسكو من ذلك، كلعب في الوقت بدل الضائع بالنسبة لها دون أي دعم جوي أو بري منها كما صرح بذلك الناطق باسم القوات الروسية في قاعدة حميميم ألكسندر إيفانوف[16]، بعيدا عن الخيار العسكري الشبيه بحلب، فتح معركة شاملة دون إغفال جانب الاختراق المباشر أو غير المباشر عبر الامتيازات والتطمينات المقدمة لأحد الأطراف دون الأطراف الأخرى أثناء المفاوضات الأحادية، كما حدث في حرب الشيشان2 يوم اختلف أحمد قاديروف مفتي المقاتلين الشيشان وأحد أبرز قادتهم مع المجموعات “الجهادية” التي دخلت داغستان وأجرى تواصلاته الأحادية مع الروس فسلم مدينة جودرميس ثاني أكبر المدن الشيشانية وسقطت غروزني واستلم رئاسة الشيشان بعدها وتمت التسوية[17] !!! إلا أن الاستمرار بسياسة الحصار والتجويع للضغط على المعارضة قد يأتي بنتائج عكسية متمثلة بإطلاق عدة أعمال عسكرية، كما سيسبب إحراجا دوليا كبيرا لروسيا ـ ضامن اتفاق خفض التصعيد ـ والتي قد تكون مستفيدة من هذا الحصار أكثر من كونها فاعلة وراغبة به، ما يعني البحث عن مخرج جديد في المفاوضات الجارية مع المعارضة، وتهذيب الشروط السابقة وفق عملية سياسية شاملة على ضوء قرار مجلس الأمن رقم 2245.

ج _ السيناريو الثالث: الجدية بإطلاق العملية السياسية

رغم القدرة الروسية على الحسم العسكري وفق نظرية الأسد “بتحرير كل شبر” إلا أن مكاسب هذا التحرير ستستثمر من الحليف الإيراني أكثر مما لو قررت روسيا قيادة المفاوضات السياسية وهو ما يحدث حاليا، حيث تسعى روسيا للعودة إلى الساحة الدولية من منطق كونها قوة عظمى تمتلك مفاتيح القوة والحل في سوريا وتدير خلافاتها الدولية من خلال هذا الملف ولو اقتضى ذلك رحيلا هادئا للأسد مع الحفاظ على مؤسسات الدولة، بعد ضمان مصالحها الاقتصادية والعسكرية، وقد سبق أن صرح وزير الخارجية لافروف أن الأسد ليس شريكا استراتيجيا لموسكو، ولكن روسيا ترفض أن يقرر مصير الأسد جهات خارجية، وتصمم على أن يقرر مصيره (الشعب السوري) عن طريق إجراء انتخابات بإشراف دولي.[18]

ولعل مما يدلنا على ذلك هو العقود الموقعة مع حكومة النظام السوري لأكثر من خمسين سنة[19]، ما يفوق العمر المتوقع للأسد.

ورغم التأكيد الروسي على أن بقاء الأسد وعدمه يحدده الشعب السوري إلا أن ذلك يعد إشارة خفية على إمكانية التخلي عنه فيما لو جرت انتخابات حرة للشعب السوري في الداخل والخارج برعاية أممية،

حيث أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية أن ‘بقاء الأسد في السلطة لا يعتبر أمرا مبدئيا لروسيا’.

أوضحت المسؤولة الروسية مجددا أن “مصير الرئيس السوري يجب أن يقرره الشعب السوري ونحن لا نحدد إن كان على الأسد الرحيل أو البقاء”.

في حين صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء زياراته الماضية لأنقرة: إن “الشروط اللازمة” لإنهاء الحرب في سوريا “أصبحت متوفرة” مؤكدا اتفاقه مع الجانب التركي على “تعميق التنسيق” بهدف إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية في جنيف[20]، وذلك وفق القرار 2245، في حين صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في وقت سابق، أن “الأطراف المشاركة في مفاوضات أستانة متفقة على إنهاء الحرب في سوريا”.

وأضاف لافروف أن “جميع المشاركين في مفاوضات أستانا يفكرون في سبل إنهاء الحرب في سوريا رغم بقاء بعض الصعوبات”.

وتابع أنه “خلال هذه الجهود يقدم لنا شركاؤنا الإقليميون مساعدة كبيرة، ومنهم بالدرجة الأولى السعودية التي طرحت مبادرة لتوحيد كافة أطياف المعارضة السورية على قاعدة تتناسب مع مقتضيات القرار الأممي 2254″، الذي يدعو لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا وإجراء انتخابات برعاية أممية، بالإضافة إلى وقف أي هجمات ضد المدنيين بشكل فوري.[21]

مع غموض طابع مشاركة المعارضة السورية للسلطة السياسية في دمشق وكيفية إعادة هيكلة الجيش والأفرع الأمنية ونوع الحكم المقرر، هل سيأخذ الشكل الفيدرالي أم المركزي إلا أن المؤكد أن روسيا فقط هي من سيكون لها اليد العليا في سوريا، وهي من سيقع على عاتقها إدارة الملفات الاقتصادية المتعلقة بالنفط والغاز وعقود إعادة الإعمار، ولو لم تبسط نفوذها العسكري على كامل الأرض السورية وتركت منها نصيب الولايات المتحدة وراعت مصالح الأتراك إلا أن الرابح الأكبر من ذلك سيكون الروس بالتأكيد.

الخاتمة

إذا كانت الاستراتيجية الروسية جادة بإنهاء الصراع في الأشهر القليلة القادمة قبل نهاية عام 2018 فإن الخيار العسكري وخيار الحصار والتركيع سيكلفها سنتين على الأقل، عدا عن الخسائر المادية والاعتبارات الدولية، ما يجعله خيارا بعيدا وغير ممكن ويحصر ما يجري ما بين العجز الروسي وعملية مراوغة واستخدام لأوراق القوة للفوز بأفضل البنود بأي اتفاقية متوقعة للوصول لصيغة ترضي الطرفين، وتقع في الغالب ما بين “المصالحة الوطنية” و “الانتقال السياسي” غير واضح المعالم، والتي ستكون قريبة جدا حسب أغلب التوقعات.

المصدر: مركز طوران للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *