القاعدة في سوريا حالة شعبيّة أم مشروع استخباراتي

هيومن فويس: أحمد عاصي
لم يكن عبثاً أن نظنّ طوال العشرين عام التي مضت في سوريا أن مشروع القاعدة هو المشروع الجهادي الذي ينتظره كل حالم بالحرية شأننا في ذلك شأن الشعوب العربية المضطهدة التي كان الموت أصلح وصفاً لها من الحياة.
بل وشأن الملايين من المسلمين في العالم الإسلامي، فحالة العداء التي كانت ظاهرة لنا بين النظام السوري والأنظمة العربية كافة وبين المشروع الجهادي الذي تُعتبر القاعدة ذرّوة سنامه كانت كافية لنا لأن نعتبر القاعدة هي مشروعنا الذي طالما انتظرناه.
وما أن بدأت الثورة في سوريا حتى صار الحلم أقرب الى الحقيقة، ربما عرفت فيما بعد أن حالة الحب والتعلق بهذا المشروع لم تأخذ مجال البحث والتمحيص وإنما هي حب الميت الى الحياة وحب الغريق للتعلق بقشة لما يظن فيها من النجاة فيصرف كل تفكيره إليها لتكون موته المحتّم.
كانت حالة العداء التي بنتها الأنظمة العربية في نفوس شعوبها المقموعة كفيلة بأن تحول الشعوب الى مطية تركبها القاعدة كيف تشاء، وكأن في ذلك أساس للمشروع الدولي الذي استطاع أن يحقق في ذلك ما لا يحلم بتحقيقه بكل الوسائل والطرق العدائية الأخرى.
وليس ذلك في معرض الاتهام أو التشهير بالمشروع الجهادي الذي يضم الصالح والطالح وإن كان الصالحين هم الأداة التي تنفذ والطالحين هم الأداة التي تخطط فكيفما اتفق في ذلك وسواء كانت القاعدة هي المشروع الجهادي الصلب الذي انطلق وليس له غاية الا أن يعيد الى الأمة عزتها ونهضتها التي يدعي أو كان أداة في أيدي أعداء الأمة تزرعها في كل منطقة يأتيها الخطر من خلالها فإن كل الأفعال والأعمال التي فعلتها القاعدة كانت ثمرتها تصب في مصلحة الأعداء ولا تخدم الا المتربصين في شرقنا العربي والحالمين بالسيطرة عليه وباستغلال ثرواته فماذا ينفع.
بعد كل ذلك أكانت القاعدة مرتعاً للمجاهدين الأتقياء أم مرتعاً للشياطين الخبثاء. وربما الخوض في التجارب البعيدة يودي بصاحبه الى الخطأ والشطط ولكن التجربة السورية التي عاينناها عن قرب كانت كفيلة لتكشف لنا ما خفي من مشروع القاعدة وتظهره على حقيقته التي ما عاد لعاقل أن يفكر فيها أو يستهجن حقيقتها أو يغفل نتائجها، ولو سأل سائل علام تضمّ القاعدة عشرات الشباب الذين يشهد لهم الجميع بالنزاهة والإخلاص والخيرة فلا يكون الجواب الا الحالة التي طليت عليهم ولم يعد للخلاص منها سبيلا، فليس التورط بمشروع القاعدة من الأمور السهلة التي تدع لصاحبها الخيرة من أمره.
وخاصة أن العالم بأثره حريص كل الحرص لجعل البيئة التي تنبت فيها القاعدة مطابقة تماماً لروايتها وموافقة لكل الخطابات التي تصدر عنها ولكل الفتاوى التي يسوقها كبار مشايخها فيصل الحال بالمرء لتكذيب نفسه وتصديق القاعدة. ولو أردنا أن نقف على مجريات هذا الواقع بتفاصيله الكاملة فلا بد من العودة الى بدايات الثورة في سوريا.
ففي ذلك الحين كان الناس حديثو عهد بالحرية، وكانوا يظنون أن النظام في سوريا سينتهي لمجرد خروج أكثر من محافظة في الثورة ولكن ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم وجهاً الى وجه مع النظام وفُرض عليهم الخيار العسكري الذي لم يكن يخطر لهم ببال وكان ذلك بيئة خصبة لولود القاعدة في سوريا وترعرعها على حين غفلة من الثوار الذين ظنوا مجدداً أن انتصارهم على النظام في معارك صغيرة كفيل بإسقاطه وتحرير سوريا من بطشه وطغيانه.
استطاعت القاعدة في هذه الفترة ان تنمو وتترعرع وتجد لها الحاضنة الشعبية الكبيرة التي ساهم النظام بصناعتها في مراحل سابقة والتي زاد من توسعها وازديادها الثقافة الشعبية لدى السوريين التي تغذيها الإشاعات وتحركها الشعارات ويأخذ فيها الادعاء كل مأخذ فاستطاعت القاعدة أن تبني ذلك الجمهور العرمرم الذي أصبح يشمت بشعبه ويتهم أهله ويفرح بعزاء جيرانه ويقيم الحد على أبناء قريته وإخوانه بالبلد بل وزاد الحد الى أن تحول جلاداً يكمل ما عجز النظام عنه وهي نتيجة منطقية للعقلية العدائية التي لا تجد غايتها إلا في قمع الآخر وإجباره على ما يراه بعيداً عن كونه إسلامياً ام وثنياً.
وربما لا يقصد بذلك أن القاعدة كانت عميلاً للنظام أو صنيعة من مكائده في سوريا بل على العكس كانت من أشد اعداءه وكان لطلائعها دوراً مهماً في معارك حاسمة ولكن الدور الذي لعبته القاعدة في حرف بوصلة الثورة وإزكاء نار الفتنة وسن سنة الاقتتال والتغلب والخطف واغتيال الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في مناطق نفوذها كان العامل الأساسي الذي يربط وجودها في سوريا بوجود النظام.
واذا كان حلم الثائر في سوريا لا يعدو عن القضاء على النظام والعودة إلى الحياة الطبيعية التي باتت حلم السوريين الذين شرّدتهم الحروب وأنهكتم المحن والمجازر وأثقلت كاهلهم الصراعات والتدخلات الدولية فإن حلم القاعدة لا يلتقي بذلك لا من بعيد ولا من قريب، بل ولعل الواقع يقول أن بداية انتهاء القاعدة في سوريا مرتبط بشكل كامل بانتهاء النظام وذلك لأن الناس باتوا في حال لا يمكن الاستمرار فيه على وقع الحروب والمعارك ولم يعد في العقلية السورية قبول متسلط آخر أين كانت أهدافه فبمجرد سقوط النظام ستجد القاعدة نفسها وجهاً إلى وجه مع الشعب بأثره ولا سيما أن سجونها تعج بالمعتقلين الذين لا يُعرف لهم ذنباً إلا أنهم خالفوا القاعدة ولم يوافقوها على آرائها وتوجهاتها ثم أن الخيار الدولي الذي بات واضحاً في حرصه الشديد على إبقاء القاعدة في المنطقة وذلك لما يستمده من شرعية في بسط هيمنته على المنطقة واقتسام خيراتها باسم محاربة الإرهاب من جهة.
ومن جهة أخرى في حرصه الشديد على استمرار الاقتتال الداخلي وإزكاء نار الفتنة بمزيد من الشباب المندفع الذي أصبح القتال خياره الذي لا مفر منه سواء في صفوف القاعدة أم في صفوف من يواجهها، وبذلك تكون النتيجة استنزاف شباب المنطقة وإغراقها في الحروب الداخلية التي لا ينتج عنها إلا الجهل والموت والتشرد لمن بقي من شعوبها وسكانها لتكون صيداً سهلاً وأرض خصبة للتقسيم والتلاعب الدولي. وسواء أقرّينا بتلك الحقيقة أم كذّبنا فإن واقع الحال يحدد أبعاد الصراع القائم في سوريا على الوجه الحالي.
ففي نهاية 2013 انتهى النظام في سوريا عسكرياً وسياسياً وأصبح لزاماً على المجتمع الدولي أن يعترف بذلك فلم يركن المجتمع الدولي إلى هذا الخيار إذ أن استقرار الوضع في سوريا وانتهاء نظام الأسد والنظام الإيراني يعني مستقبلاً مخيفاً يهدد المصالح الاستعمارية في المنطقة، فكان لا بد من تحويل الصراع من صراع بين شعب ثائر ونظام غاصب إلى صراع دولي دخلته روسيا وإيران بشكل واضح من خلال انخراطهما بالحرب العسكرية، ودخلته فرنسا من خلال سكوتها على ما يحصل في سوريا التي تقع تحت الوصاية الفرنسية في معاهدة سايكس بيكو ولا يخفى الدور الأمريكي الواضح من خلال دعم الأكراد الانفصاليين وتقوية شوكتهم فكان لا بد من خلق العدو الذي تجتمع كل الأطراف على مواجهته وهو القاعدة بكل وضوح.
وبالعودة إلى سوريا منذ ذلك التاريخ ندرك جيداً أن من دفن الثورة حتى الرقبة لم يكن النظام إذ أصبح النظام أعجز عن الدفاع عن نفسه بل إن القاعدة هي التي قضت على أكثر من 30 فصيل من الفصائل التي ولدت من رحم الثورة باسم العمالة والتخابر والعمل لصالح الدول الأجنبية، لتفاجأنا في نهاية المطاف بعقد الهدن والصفقات مع الجهات الدولية وتوغل في التعامل والتآمر الذي كانت قد اتهمت فيه خصومها وأعداءها.
والحديث هنا لا يكون على عمالة القاعدة من عدمها فلعل ذلك أصبح من الأمور التي يمكن الكلام عنها بأريحية حيث أنه اجتمع من الأدلة التي تثبت على ارتباط القاعدة بأجهزة الاستخبارات العالمية الكثير وأنها المشروع الرابح الذي تمكنت المنظومة الدولية من خلاله أن تحقق عشرات الأهداف في فترة زمنية قصيرة وفي أقل التكاليف الممكنة.
ولكن ما يعنيننا هنا في سوريا بالذات أن نتكلم عن القاعدة كفصيل مقاتل نشأ وعلى أنه أمر واقع وأنه مستقل من غير ارتباط بأحد وإنما يقوم بأفعاله من تلقاء خلفيته الفكرية وايديولوجيته التي رسخها في رؤوس عناصره، فيعنينني هنا أن أحدد موقفي من هذا الفصيل انطلاقا من كوني مواطن سوري في الدرجة الأولى فإن كل مواطن في سوريا من خلال تحركه في مناطق سيطرة القاعدة هو عرضة للمساءلة.
فإن لم يكن على آراءه فعلى عقيدته وإن لم يكن على عقيدته فعلى مذهبه وإن لم يكن على مذهبة فعلى سلوكه وإن لم يكن هذا وذلك فعلى ما قدمه ويقدمه للجهاد والمجاهدين وتستمر الاتهامات التي يمكن أن يؤخذ بها المواطن على أيدي التنظيم فتعود بذلك صورة النظام التي لا يحسب المواطن السوري حساب لأكثر منها وهي القمع والاستبداد وليس في العقلية السورية إمكانية تحليل المرجعية الدينية لكل مستبد يكفي أنه مستبد ليكون عدو بالفطرة. وعليه فإن حكم القاعدة لما تبقى من سوريا المحررة ليست إلا عقوبة تقتضي تأديب الشعب السوري ونقله من وصاية جلاد إلى وصاية جلاد آخر في حال أن القاعدة لم تأتي بكل طائرات العالم الحربية لتصب حممها وقذائفها على الشعب السوري الذي لم يعد شيء حاضرا في ذهنه أكثر من الموت.