العلاقات الأمريكية ـ التركية في مهبّ الريح

هيومن فويس: القبس- علي باكير
اندلعت مساء الأحد أزمة دبلوماسية جديدة بين الولايات المتّحدة وتركيا، بعد أن أعلنت السفارة الأميركية في أنقرة تعليق جميع خدمات التأشيرات في مقرها والقنصليات الأميركية في تركيا «باستثناء المهاجرين». وعلى الفور، ردّت السلطات التركية في الليلة نفسها بقرار مماثل عبر السفارة التركية في واشنطن يتطابق حرفياً مع الإجراء الأميركي نفسه، في إشارة الى أنّ الجانب التركي لن يقبل التعامل إلا بنديّة، علماً بأن القرار التركي شمل أيضاً إيقاف التأشيرات الالكترونية، وتلك التي تمنح على بوابات العبور على الحدود مباشرة.
وعلى الرغم من انّ البيان الأميركي لم يشر الى السبب المباشر الذي دفعه لاتخاذ مثل هذا القرار الذي أدى بدوره، الى تصعيد كبير ومفاجئ في الأزمة بين البلدين، فإنّ كثيرين يشيرون الى انّ اعتقال السلطات التركية لأحد الموظّفين العاملين في القنصلية الاميركية هو السبب الذي يقف خلف ردّ الفعل الأميركي هذا.
وكانت السلطات التركية قد اعتقلت الأربعاء الماضي موظفّاً يعمل في القنصلية الأميركية بموجب قرار قضائي من محكمة إسطنبول، بتهمة علاقاته مع تنظيم فتح الله غولن، وقد وُجِّهَت اليه تُهَم رسمية تتضمّن التجسّس والسعي لإطاحة الحكومة. وعلّقت السفارة الاميركية على هذا الإجراء في حينه بالتعبير عن قلقها العميق من عملية التوقيف مع التأكيد على أنّ الاتهامات الموجّهة ضدّه لا أساس لها من الصحة.
استغراب تركي
وأثار موقف السفارة الأميركية استغراب كثيرين، نظراً إلى أنّ موظّف القنصلية تركي الجنسية، ولا يحمل أي جواز سفر أميركي كما قيل، وهو ما يعني أنّه لا يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، فضلاً عن حقيقة انّ الاعتقال جرى وفق القوانين والإجراءات المرعية، حيث تم اعتقاله خارج نطاق عمله، وبما لا يتعارض مع القوانين المتعلقة بالتعامل مع المقار الدبلوماسية للبعثات الأجنبية، وبالتالي ليس هناك من مبرر مقنع لتفسير موقف السفارة الأميركية.
ووفقاً لبعض المعلومات، فانّ الموظف المعني لم يكن مسجّلاً حتى في القائمة الرسمية لموظفّي البعثة الدبلوماسية الأميركية، وتشير مصادر الى انّ إيقاف الموظف مرتبط على الأرجح بتعقّب السلطات التركية اتصالا هاتفيا كان قد أُجرِيَ من هاتف خيلوي في القنصلية الأميركية بتاريخ 21 يوليو 2016 الى المواطن التركي عادل أوكسوز الملقّب بــ «الصندوق الأسود» لفتح الله غولن.
ويُتّهم أوكسوز بأنّه أحد كبار المخطّطين لمحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، حيث تمّ اعتقاله في تلك الليلة في قاعدة عسكرية تركيّة، لكنه تمكّن من الفرار لاحقاً، ويعتقد انّ جهة ما ساعدته على الهرب من داخل تركيا الى ألمانيا. السفارة الاميركية لم تفصح عن هذه المعلومة في حينه، لكنّها اعترفت في مارس الماضي بحصول هذا الاتصال بعد ان نشرت الصحافة التركية تفاصيلَ عنه، وبررت السفارة الامر حينها بانّه جاء في إطار التعاون مع السلطات التركيّة لإبلاغ الشخص المعني بإلغاء تأشيرته الى الولايات المتّحدة.
انخفاض الليرة
وأدّت الازمة الدبلوماسية التي اندلعت مساء الأحد الى انخفاض سعر العملة المحليّة ـــ الليرة التركية ــــ الى أدنى مستوى لها امام الدولار، كما انخفضت أسعار أسهم شركات الطيران التركية وبعض المصارف بالإضافة الى تراجع مؤشر البورصة. وعلى الرغم من أنّ وزير الخارجية الأميركية ريكس تيليرسون كان قد اتصل بنظيره التركي مولود تشاووش أوغلو قبل الازمة بساعات، فإنّ مسؤولين أتراكاً نفوا ـــ بشدّة ـــ أنّ يكون الجانب الأميركي قد أطلع الجانب التركي عزمه اتخاذ مثل هذه الإجراءات، وهو الامر الذي يثير الشكوك حول طبيعة الجهة التي اتخذت القرار داخل الادارة الأميركية وما الهدف الحقيقي منه، لا سيما بعد حوالي أسبوعين على اللقاء الذي جمع الرئيس دونالد ترامب بالرئيس رجب طيب أردوغان، وامتدح فيه الأول الثاني، مشيرا الى العلاقات الجيّدة بين البلدين.
واستدراكاً للمزيد من المضاعفات المحتملة، جرت محاولات لاحتواء الأزمة حيث استدعت الخارجية التركية المستشار في السفارة الأميركية في أنقرة لمطالبة الجانب الأميركي بالتراجع عن قراره، وتوقع وزير العدل التركي أن تتراجع واشنطن عن قرارها الأخير.
انعدام ثقة.. وتناقض
وعلى الرغم من انّ بيان السفارة الأميركية في أنقرة كان قد أشار الى عملية «تقييم»، وهو ما يعني انّ الاجراء ربما يكون مؤقتاً على الأرجح، الا انّ التطورات المتسارعة المتعلقة بالأزمة قد تدفع باتجاه فقدان السيطرة عليها من كلا الطرفين، خاصة بعد ان أصدر المدعي العام التركي مذكرة جديدة يدعو فيها موظّفاً ثانياً في القنصلية الأميركية للحضور الى المحكمة من اجل الادلاء بشهادته، وذلك بعد تقارير صحافية اشارت الى انه قد صدرت مذكرة اعتقال بحق الموظف الثاني الذي يتحصّن داخل القنصلية.
وتشعر أنقرة بخيبة امل كبيرة من الجانب الأميركي نتيجة السلوك السلبي المتكرر خلال السنوات الماضية، وهو الامر الذي أفضى الى انعدام الثقة بين البلدين وأدى الى تراكم عدد كبير من الملفات الخلافية بين الجانبين، والتي تصل الى حد التناقض في كثير من الاحيان على الرغم من كونهما عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ولا يزال الشارع التركي يربط بشدّة بين محاولة الانقلاب العسكرية العام الماضي وبين رفض واشنطن تسليم المتّهم الأول بتدبير الانقلاب فتح الله غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا.
ولا يقتصر الموقف الاميركي على رفض تسليم غولن، اذ لم تقم السلطات الاميركية باستدعائه للتحقيق أو فرض الاقامة الجبرية عليه، على الرغم من انّ السلطات التركية تقول إنّها قدّمت الادلة والوثائق القانونية التي تتيح للقضاء الاميركي التحرك وذلك بموجب الاتفاقية الموقعة بين البلدين سابقا.
وكان الرئيس التركي قد قال مؤخرا موجّها كلامه للجانب الأميركي «يقولون لنا أعطونا القس. نحن نقول لديكم داعية (غولن) هناك، أعطونا إيّاه وسنحاكم (برانسون) ونعيده إليكم». وقد فسّر هذا الكلام على أنّه مقترح للتبادل، حيث كانت السلطات التركية قد أوقفت القس الأميركي أندرو رانسون في أكتوبر 2016 ووجهت له تهماً تتعلّق بتنظيم غولن.
ودأب الجانب التركي على اطلاق مثل هذه التصريحات للإشارة الى المعايير المزدوجة في التعامل، حيث تتذرّع بعض البلدان بوجود قانون او قضاء يمنع تلبية المطلب التركي، لكنّها لا تقبل في الوقت نفسه أن يقال لها نفس الشيء عندما تطلب الأمر نفسه من الجانب التركي.
تجاهل المصالح
ولا يقتصر الخلاف بين الطرفين على هذا الأمر، إذ توجد قناعة راسخة لدى عدد كبير من المسؤولين الأتراك بأنّ الادارة الأميركية السابقة والحالية تجاهلت عمداً في كثير من الاحيان المصالح الحيوية لأنقرة في منطقة الشرق الأوسط بالإضافة الى أنّها ساعدت عملياً أطرافاً شكّلت ولا تزال تشكّل خطراً على الأمن القومي التركي من دون وجود مبرر مقنع.
وأدى الاستياء التركي الى اندفاع أنقرة باتجاه موسكو، لا سيما بعدما تلكّأ حلف شمال الاطلسي الناتو في الدفاع عن تركيا، عندما قامت الاخيرة باسقاط مقاتلة روسية في نوفمبر من عام 2015، حيث فضّل كثير من الدول حينها وعلى رأسها أميركا وألمانيا سحب بطاريات صواريخ باتريوت من الاراضي التركية لتفادي الاصطدام مع روسيا، تاركة تركيا وحيدة في عين العاصفة.
ويشكك كثير من الأطراف التركية في حقيقة موقف الولايات المتّحدة من المساعي الانفصالية الكردية، لا سيما إثر إصرار إقليم شمال كردستان العراق على إجراء الاستفتاء مؤخراً، وترى انّ ذلك لم يكن ليتم لو كان الموقف الاميركي صارماً وحقيقياً في رفض الاستفتاء.
نظراً الى هذه التراكمات، فإن الازمة الأخيرة بين البلدين لم تأت من فراغ، وسيكون من الصعب بمكان توقّع توقيت انفراجها او ربما تفاقمها، لكنّ الأكيد في الامر أنّ الطرفين بغنى عن المزيد من المشاكل الثنائية، ومن الممكن لهما ان يصلا الى تفاهمات على ملفات فرعية يتم البناء عليها لاحقا لتنفيس الاحتقان القائم، لكن المشكلة انّ الجانب التركي لم يعد يثق بتاتاً بأي وعود اميركية بعد التجارب الطويلة التي مرّ بها خلال السنوات الماضية، وينتظر الحصول على مقابل، وليس على وعود، وهو ما يعني انّ الازمة الحالية ليست مجرّد أزمة عابرة وأنّ الجانب الاميركي قد يخسر تركيا لروسيا اذا ما استمر على النهج نفسه، لا سيما في ظل توجّه العديد من بلدان المنطقة مؤخراً الى موسكو بدلا من واشنطن للتعويض عن تراجع الدور الاميركي في المنطقة.